إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. logo إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .
shape
الثمرات الجنية شرح المنظومة البيقونية
45247 مشاهدة print word pdf
line-top
مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع منزلة أهل العلم، فقال: يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الكرام، حُماة السنة المقتدين، ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد، فمما لا شك فيه ولا ريب أن أعظم وأفضل وأجل العلوم بعد القرآن الكريم علم السنة النبوية وشرف العلوم يتفاوت بشرف مدلولها، وقدرها يعظم بعظم محصولها، ولا خلاف عند ذوي البصائر أن أجلها ما كانت الفائدة فيه أعم، والنفع فيه أتم، والسعادة باقتنائه أدوم، والإنسان بتحصيله ألزم، كعلم الشريعة الذي هو طريق السعداء إلى دار البقاء، ما سلكه أحد إلا اهتدى، ولا استمسك به من خاب، ولا تجنبه من رشد، فما أمنع جناب من احتمى بحماه، وأرغد مآب من ازدان بحُلاه .
وإذا علمنا أن علم الحديث من العلوم الشرعية التي أمرنا بتعلمها وتعليمها وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه، ولذلك يسّر الله -سبحانه وتعالى- أولئك العلماء الأفاضل، والثقات الأماثل، والأعلام المشاهير، الذين حفظوا قوانينه، واحتاطوا فيه، فتناقلوه كابرا عن كابر، وأوصله كما سمعه أَوَّلٌ إلى آخر، وحبّبه الله إليهم لحكمة حفظ دينه، وحراسة شريعته، فمازال هذا العلم من عهد الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- والإسلام غض طري، والدين محكم الأساس قوي، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين بعدهم وتابعي التابعين، خلفا بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله -عز وجل- إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه، وانقطعت الهمم على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز الخطيرة، ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه… .
وقد اعتنى أهل العلم في القديم والحديث بحفظ الأحاديث وروايتها، والعمل بها، وتدوينها في كتب أطلق عليها، سنن، ومسانيد، وصحاح، ومعاجم، وجوامع، ومشيخات، وأجزاء، وأمالي، ونحو ذلك. واهتموا كذلك بالرواة ومروياتهم من حيث القبول والرد، وقعدوا قواعد لنقد الرواة والروايات، وألفوا في علوم الحديث كالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب ورود الحديث، والتصحيف والتحريف، والمؤتلف والمختلف، والمتفق، والمتفرق ... إلى غير ذلك من مباحث هذا العلم.
1- ويعتبر الإمام القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خالد الرّامَهُرْمُزي (360هـ) أول من ألف في علوم الحديث في كتابه ( المُحدث الفاصل بين الراوي والواعي ) ولم يستوعب كل الأنواع.
2- ثم تلاه الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري (405هـ) فألف علوم الحديث لكنه لم يهذب الأبحاث ولم يرتبها.
3- ثم جاء الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ) فعمل على كتاب الحاكم مستخرجا، وترك أشياء لم يذكرها فتداركها من جاء بعده من الأئمة.
4- ثم صنف الحافظ الحجة أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (463هـ) كتابا في قواعد الرواية سمّاه ( الكفاية في علم الرواية ) وكتابا آخر في آداب الراوي سماه ( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ) ، بل وقل فن من فنون الحديث النبوي إلا وألف فيه كتابا حتى قال الحافظ أبو بكر بن نقطة : كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه.
5- وألف القاضي عياض بن موسى اليحصبي (544هـ) كتابه: ( الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ) وهو كتاب فريد، مفيد جدا في بابه، واقتصر فيه على كيفية التحمل والآداء وما يتفرع عنها.
6- وألف الإمام أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانجي (580هـ) جزءا مختصرا بعنوان ( ما لا يسع المحدث جهله ).
4- ثم جاء الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (643هـ) فألف كتابه المشهور علوم الحديث والذي عُرف بـ ( مقدمة ابن الصلاح ) وقد اعتنى بكتب من سبقه من الأئمة خصوصا الخطيب البغدادي، وكان يُملي على طلبته ما جمعه وهذبه، فجاء كتابه حافلا مفيدا، لكن لم يرتبه ترتيبا مناسبا، ومع ذلك فيعتبر كتابه بحق عمدة لمن جاء بعده من العلماء؛ ولذا اعتنى به الكثير ما بين شارح له أو ناظم أو مختصر أو مستدرك، فمن ذلك: ( ألفية الحديث ) للحافظ العراقي وقد شرحها بنفسه، وشرحها الحافظ السخاوي بشرح مطول أسماه: ( فتح المغيث ).
8- واختصر المقدمة، الإمام النووي بكتابه: ( التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير )، وشرح التقريب الإمام السيوطي شرحا وافيا في كتابه: ( تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ). - وممن اختصر المقدمة الحافظ ابن كثير في كتابه ( اختصار علوم الحديث ) وقد شرحه العلامة أحمد شاكر في كتابه ( الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ).
ومن المختصرين أيضا القاضي بدر الدين ابن جماعة في كتابه ( المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي ).
وكذلك البلقيني في كتابه ( محاسن الاصطلاح في تضمين كتاب ابن الصلاح )، والعراقي في كتابه ( التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح )، وأيضا الإمام ابن الملقن في كتابه ( المقنع )، وكذلك ابن حجر في كتابه ( النكت )، والطيبي في كتابه ( الخلاصة في أصول الحديث )، وغير ذلك من المؤلفات التي تدل على أهمية كتاب ابن الصلاح .
وتوالت بعد ذلك المؤلفات في علم مصطلح الحديث عموما إما بالنظم أو النثر، ومن أفضل وأدق كتاب في هذا الباب: كتاب الحافظ ابن حجر ( نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر )، وشرحه ( نزهة النظر )، هذا الكتاب يعتبر من المختصرات المحررة: وإذا كانت مقدمة ابن الصلاح قد اعتنى بها الكثير، فإن النخبة ذاع صيتها وتلقفها طلاب العلم، واهتم بها العلماء أكثر من غيرها وكثرت شروحات الأئمة، وكثر النظم لها. .
وممن نظم في علم المصطلح الشيخ طه بن محمد ابن فتوح البيقوني كان حيا قبل 1080هـ وهو نظم مشهور بديع امتاز بسلاسة الألفاظ وسهولة العبارة، إلا أنها مختصرة جدا اقتصر في نظمه على ذكر بعض مصطلحات الفن، ولو كانت شاملة لكفت الراغب في هذا العلم، وقد انتقد النظم في بعض المواضع.
وقام بشرح البيقونية بعض أهل العلم من ذلك:
1- شرح العلامة عبد القادر بن جلال الدين المحلى كان حيا 1065هـ المسمى: فتح القادر المعين بشرح منظومة البيقوني في علم الحديث، وتوجد نسخة خطية محفوظة في جامعة الملك سعود برقم 342.
2- ( تلقيح الفكر بشرح منظومة الأثر ) تصنيف العلامة أحمد بن محمد الحسيني الحمودي الحنفي 1098هـ، وتوجد نسخة خطية في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 598.
3- ( شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية في المصطلح ) تصنيف العلامة محمد الزرقاني المالكي 1122هـ وشرحه مطبوع.
4- ( صفوة الملح بشرح منظوم البيقوني في فن المصطلح ) تصنيف العلامة شمس الدين محمد بن محمد البديري الدمياطي المشهور - بابن الميت - 1140هـ. وتوجد نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم 23264ب، وأخرى برقم 25882ب، ونسخة ثالثة في المكتبات الوقفية بحلب وعنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 7692ت.
5- ( حواشي على المنظومة البيقونية ) تصنيف العلامة عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى الأهدل 1250هـ. وتوجد نسخة في جامعة الملك سعود برقم 598 وأخرى برقم 1404م (ص293-300). وثالثة برقم 1351.
6- ( الدرة البهية في شرح المنظومة البيقونية ) تصنيف العلامة محمد بدر الدين بن يوسف المدني الدمشقي 1354هـ، وتوجد نسخة في الخزانة العامة بالرباط وعنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 6439ف.
7- ( النخبة النبهانية شرح المنظومة البيقونية ). تصنيف الشيخ محمد بن خليفة بن حمد النبهاني 1369هـ وهي مطبوعة.
8- ( التقريرات السنية شرح المنظومة البيقونية ) تصنيف العلامة حسن بن محمد المشاط المكي 1399هـ وقد طُبع مرارا.
9- ( شرح البيقونية في مصطلح الحديث ) تصنيف العلامة محمد بن صالح بن عثيمين وهو شرح لطيف مفيد للغاية، وقد طبع.
10- وهناك شروح كثيرة على البيقونية غير ما ذكرناه، ولعل من أفضل شروحات هذه المنظومة شرح شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله تعالى -وهو هذا الشرح- ولقد امتاز شرح شيخنا بسهولته ووضوحه، وكثرة الأمثلة، والتعقبات المفيدة، وعدم التقيد بالمباحث التي اقتصر عليها الناظم، فنجد في هذا الشرح الماتع ذكر بعض أنواع مصطلح الحديث التي لم يرد ذكرها في النظم، على أن شيخنا -رعاه الله- لم يُرِد التوسع ولو فعل لكان هذا الشرح في مجلد كبير.
وهذا الشرح عبارة عن درس ألقاه الشيخ لبعض الطلاب المبتدئين، وسُجل على أشرطة وقام بنقله أحد الإخوة الفضلاء -جزاه الله خيرا - ومن ثم عُرض على الشيخ وقام بمراجعته وتصحيحه وتعديله، وقد وفقني الله -تعالى- للعناية بهذا الشرح وخدمته، فلله الحمد والمنة، وقمت بتعليق بعض الفوائد الضرورية المهمة، ووضعت عناوين للرسالة إتماما للفائدة، ونسأل الله العلي القدير أن يرزقنا علما نافعا وعملا صالحا متقبلا، ونستغفره ونتوب إليه من جميع الذنوب، والحمد لله رب العالمين.

وكتب
أبو أكثم سعد بن عبد الله سعد السعدان
13/1016هـ
ص ب: 86662
الرياض 11632

line-bottom